-A +A
سيف السحباني «جدة»

مثلما تفوق علي المقري الشاعر منذ بداية بروز نجمه في عالم الشعر عندما أصدر مجموعته الشعرية الأولى «نافذة للجسد» مرورا بالمجموعة الثانية «ترميمات» ثم «يحدث في النسيان» انتقل بكل سلاسة وقدرة مذهلة بعثت الدهشة عند النقاد إلى عالم السرد الواسع والأشمل والأحدث ليؤسس لنفسه مكانة لائقة بين أشهر كتاب الرواية في الوطن العربي منذ روايته الأولى «طعم أسود رائحة سوداء» و «اليهودي الحالي» التي نتناولها اليوم والرواية الأحدث الصادرة مطلع صيف هذا العام «حرمة» ليثبت من خلال كل ذلك أن «ابن المقري» يمتلك القدرة الفائقة على الإمتاع السردي المشوق، بحيث لا يشعر القارئ بالملل عند قراءته لإحدى رواياته، ليجد معها أنه لا مفر من التهامها في جلسة واحدة، بشهادة كوكبة من المبدعين والمبدعات العرب كانت منهم «ماريا الهاشم» التي كتبت في النهار البيروتية: «في (اليهودي الحالي) يصيب السرد هدفه مباشرة من دون مواربة وإرجاء وانزياحات إلى أماكن أخرى». كل ذلك وأكثر كان دافعا لـ «عكاظ» أن تلتقي الروائي العربي اليمني علي المقري لتعرف منه قصة ولادة روايته الأشهر التي وصلت إلى مراحل متقدمة في مسابقة البوكر فقال :



قصة ولادة النص



«ستمضي سنوات طويلة، ربما، حتى أستطيع أن ألملم مزق صورة كانت هي وراء كتابتي لرواية (اليهودي الحالي). لقد نشأت في مجتمع عربي مسلم يحتقر كل ما هو يهودي، ويعتبر أن وصف (يهودي) يحيل إلى النقصان.

«أنت يهودي ابن يهودي» يقولها المسلم للمسلم الآخر بقصد شتمه.

كنت أتساءل: لماذا؟

بحثت عن هؤلاء «اليهود» فصاروا جزءا من انشغال دائم ظل ثلاثين سنة، أو أكثر قليلا.

بدا ذلك في زيارات مكررة إلى سكنى اليهود في اليمن، حتى صار أكثرهم أصدقائي.

إلى جانب أن أخبار الصراع العربي الإسرائيلي كانت لا تتوقف، وصار مثل هذا الصراع هو عنوان كل شيء، مما شدني إلى أسئلة أخرى أنهكتني في البحث: عن تاريخ وجذور هذا الصراع، ولماذا الصراع، وعن ماذا الصراع، ثم من نحن ومن هم؟

وقبل هذه الأسئلة ومعها وبعدها بقيت اسأل: ما الوطن؟ ولم الوطن؟

سالم، «اليهودي الحالي»، يقول في الرواية إن فاطمة كانت هي البديل من الوطن.

(لا أدري هل ينتبه القراء لتفاصيل كهذي؟). والسؤال عن الوطن ، هو ما اشتغلت عليه من قبل في مقدمة رواية (طعم أسود رائحة سوداء) وتداخل في رواية (حرمة)، أيضا. أظن أنني استطعت أن اكتشف إجابات مختلفة عما كنت أسمعه وأقرأه في وسائل الإعلام والكتب المكرسة. اشتغلت في البحث ومن زاوية فنية أدبية.

كانت كل مسارات الصراع محل سؤال عندي ولهذا تعاملت مع الموضوع الروائي من زاوية ليست منحازة. كانت الأيديولوجية جزءا من الصراع وعماده، لكنني في الرواية لم أنطلق من موقف أيديولوجي أو أخلافي أو سياسي، لأن هذه المواضيع نفسها كانت محل اختبار في الرواية التي كتبتها بحثا عن أجوبة لم أستطع الحصول عليها، وما زلت أبحث عنها، ربما، مع قراء الرواية».





من رواية “اليهودي الحالي “





في صباح اليوم الثامن من غيابي عنها، جاءت إلى منزلنا. بدت أمي مرتبكة وهي تستقبلها. سمعتها تحدث نفسها هامسة، وهي تحضر لها القهوة «معقول؟ امرأة مسلمة في بيت يهودي؟».

أعرف أنها قد التقتها مرات كثيرة في منزلهم، أو في منازل مسلمين آخرين؛ لكن، ما لم أعرفه، هو أن زيارة مسلمة إلى الحي اليهودي كان نوعا من المستحيل.

بعد أن شربت فاطمة القهوة، ألتفتت إلي «ما به اليهودي الحالي لم يعد يجيء عندنا».

«لا أعرف، أبوه منعه» أجابتها أمي، لتندهش بعدها، وهي تسمع سؤال زائرتها عن أبي. طلبت مقابلته لتستفهمه عن سبب منعه لي.

ذهبت لأناديه، لكنني لم أجده. قال أخي هزاع الذي يعمل معه في المحل، إنه في اجتماع مع اليهود بسببي.

النقاشات والحوارات الصاخبة التي كانت تجري في اجتماعات بيت الحاخام لم تعد خافية على أحد من اليهود صغارا وكبارا. جميعها دارت حول ما تلقيته من دروس في بيت المفتي، حتى ظننت أن القضية لن تنتهي.

حين وصل، أجابها وهو يحاول أن يواري ارتباكه «لا يوجد شيء.. قلت، فقط، يبقى ينفعني.. أنا محتاج له».

رأيتها وقد أعادت الحجاب إلى وجهها، فلم يظهر منها سوى عينيها اللتين راحتا تتراقصان بفرح، وهما تنظران إلي.

«أعتقد أنك غاضب من قراءته لعلم العرب»..

بدا أنه فوجئ بقولها. تمتم ببعض كلمات، كأنه يرتبها، لتكون عندها أقل إزعاجا. «سأقول لك الحقيقة.. أنتم مكانتكم غالية وكبيرة عندنا، وأبوكم على رأسنا وعيوننا، والمسلمون كلهم سادتنا، ولا نقول لهم: لا، أبدا..».

لم أدر ماذا قال بعدها. كلماته القليلة هذه، أدارت رأسي في الزمن، وأيقظت ذهني، لأكتشف المهانة التي صرت -منذ تلك اللحظة- أسمعها في أصوات اليهود، ألاحظها في خطواتهم وبين أصابعهم.

حدثها، بعد هذه الإطلالة، كما بدا لي، عن عدم رغبته في تعلمي القرآن. أوضحت له «ما درسته، هو علوم في اللغة العربية، حتى يعرف القراءة والكتابة. أنا أعرف أنه يهودي، لكم دينكم ولنا ديننا. لا توجد مشكلة. كلنا من آدم وآدم من تراب. اللغة ليس فيها دين فقط، فيها تاريخ وشعر وعلوم. أقول لك، والله، توجد كتب كثيرة في رفوف بيتنا، لو قرأها المسلمون سيحبون اليهود، ولو قرأها اليهود سيحبون المسلمين». كلماتها الأخيرة أبدت فيه غبطة ودهشة، لم يكن قد عرفها من قبل، كما قال لي في ما بعد.

انبسط وجهه وتجلى، كمن استعاد بعض كرامته. لم أسمع أي اشتراطات توقعتها منه لعودتي «الابن ابنكم، اعملوا فيه ما تريدونه.. كلامكم حالي، يدخل القلب، ويزن العقل.. ولا ألف رجل مثلك، ما تريدينه اعمليه، علميه الذي ترغبين، أنت سيدتنا، عيوننا وتاج رأسنا». في المساء بدا أخي غاضبا وهو يسمع أمي، تخبره عما جرى. قال «لم أسمع بمقابلة نساء مسلمات لرجال مسلمين، ولو كن محجبات في ملابس، لا تظهر أي جزء من أجسامهن، فكيف أصدق أن إحداهن طلبت مقابلة رجل يهودي، وأن ذلك حصل فعلا».. رجعت إلى تلقي الدروس، لكن أبي طلب إلي، أيضا، في اليوم نفسه أن أذهب إلى بيت الحاخام لأتلقى دروسه هو الآخر.

أثر ما عملته دروس بيت المفتي على اليهود في توجههم في تعليم أبنائهم كان واضحا. صاروا من الكثرة بحيث لم تستوعبهم ساحة بيت الحاخام، فقسموهم إلى فترتين.



إليك يــ علي ــا

قرأتك شاعرا ثم روائيا مبدعا، ومن خلال تجربتك الروائية المثرية أرى أنك لم تفرط برؤية الشاعر في عوالمك السردية، ما أعطى هذه التجربة الهامة المزيد من الجمال والتألق، برغم أن عالم الرواية ابتعد بك ربما كثيرا عن تعاطي الشعر، وهذا الابتعاد عموما ليس غريبا في ظل انتشار الرواية والحاجة إليها كوعاء يتسع للتعبير عن هموم مجتمعاتنا العربية الحديثة من منظور إبداعي.

فهد الخليوي



(اليهودي الحالي) من عيون ما أنتج في الرواية العربية المعاصرة. عمل إبداعي مدهش وفاتن يحرضك على على قراءته في جلسة واحدة. بدءا من العنوان: يغلف المقري روايته بهالة من الفضول الأخاذ الذي يستلب القارئ فلا يجد نفسه إلا في آخر صفحة. علي المقري و (اليهودي الحالي) مكسب للرواية العربية.

د. أشجان هندي